فصل: تفسير الآية رقم (42)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏42‏)‏‏}‏

العامل في ‏{‏إذ‏}‏ قوله ‏{‏التقى‏}‏ و‏{‏العدوة‏}‏ شفير الوادي وحرفه الذي يتعذر المشي فيه بمنزلة رحا البير لأنها عدت ما في الوادي من ماء ونحوه أن يتجاوز الوادي أي منعته، ومنه قول الشاعر‏:‏

عدتني عن زيارتك العوادي *** وحالت دونها حرب زبون

ولأنها ما عدا الوادي أي جاوزه، وتسمى الضفة والفضاء المساير للوادي عدوة للمجاورة، وهذه هي العدوة التي في الآية، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «بالعُدوة» بضم العين، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «بالعِدوة» بكسر العين، وهما لغتان، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وقتادة وعمرو «بالعَدوة» بفتح العين، ويمكن أن تكون تسمية بالمصدر، قال أبو الفتح‏:‏ الذي في هذا أنها لغة ثالثة كقولهم في اللبن رَغوة ورِغوة ورُغوة، وروى الكسائي‏:‏ كلمته بحضرة فلان وحضرته إلى سائر نظائر، ذكر أبو الفتح كثيراً منها، وقوله ‏{‏الدنيا‏}‏ و‏{‏القصوى‏}‏ إنما بالإضافة إلى المدينة، وفي حرف ابن مسعود «إذا أنتم بالعدوة العليا وهم بالعدوة السفلى»، ووادي بدر آخذ بين الشرق والقبلة منحرف إلى البحر الذي هو قريب من ذلك الصقع، والمدينة من الوادي من موضع الوقعة منه في الشرق وبينهما مرحلتان، حدثني أبي بأنه رأى هذه المواضع على ما وصفت وقال ابن عباس‏:‏ بدر بين مكة والمدينة، و‏{‏الدنيا‏}‏ من الدنو، و‏{‏القصوى‏}‏ من القصو، وهو البعد، وكان القياس أن تكون القصيا لكنه من الشاذ، وقال الخليل في العين‏:‏ شذت لفظتان وهما القصوى والفتوى، وكان القياس فيهما بالياء كالدنيا والعليا، و‏{‏الركب‏}‏ بإجماع من المفسرين غير أبي سفيان، ولا يقال ركب إلا لركاب الإبل وهو من أسماء الجمع، وقد يجمع راكب عليه كصاحب وصحب وتاجر وتجر، ولا يقال ركب لما كثر جداً من الجموع‏.‏

وقال القتبي‏:‏ الركب الشعرة ونحوها، وهذا غير جيد لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قد قال «والثلاثة ركب» الحديث وقوله ‏{‏أسفل‏}‏ في موضع خفض تقديره في مكان أسفل كذا قال سيبويه، قال أبو حاتم‏:‏ نصب «أسفلَ» على الظرف ويجوز «الركب أسفل» على معنى وموضع الركب أسفل أو الركب مستقراً أسفل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وكان الركب ومدبر أمره أبو سفيان بن حرب قد نكب عن بدر حين نذر بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ سيف البحر فهو أسفل بالإضافة إلى أعلى الوادي من حيث يأتي، وقال مجاهد في كتاب الطبري‏:‏ أقبل أبو سفيان وأصحابه من الشام تجاراً لم يشعروا بأصحاب بدر ولم يشعر أصحاب محمد بكفار قريش ولا كفار قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى التقوا على ماء بدر من يسقي لهم كلهم، فاقتتلو فغلبتهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأسروهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذا تعقب، وكان من هذه الفرق شعور يبين من الوقوف على القصة بكمالها، وقوله ‏{‏ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد‏}‏ قال الطبري وغيره‏:‏ لو تواعدتم على الاجتماع ثم علمتم كثرتهم وقلتكم لخالفتم ولم تجتمعوا معهم، وقال المهدوي‏:‏ المعنى أي لاختلفتم بالقواطع والعوارض القاطعة بين الناس‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا نيل واضح، وإيضاحة أن المقصد من الآية نعمة الله وقدرته في قصة بدر وتيسيره ما يسر من ذلك، فالمعنى إذ هيأ الله لكم هذه الجمال ولو تواعدتم لها لاختلفتم إلا مع تيسير الذي تمم ذلك، وهذا كما تقول لصاحبك في أمر سناه الله دون تعب كثير‏:‏ ولو بنينا على هذا وسعينا فيه لم يتم هكذا، ثم بين تعالى أن ذلك إنما كان بلطف الله عز وجل ‏{‏ليقضي أمراً‏}‏ أي لينفذ ويظهر أمراً قد قدره في الأول ‏{‏مفعولاً‏}‏ لكم بشرط وجودكم في وقت وجودكم، وذلك كله معدوم عنده، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليهلك من هلك عن بينة‏}‏ الآية، قال الطبري‏:‏ المعنى ليقتل من قتل من كفار قريش وغيرهم ببيان من الله وإعذار بالرسالة، ‏{‏ويحي‏}‏ أيضاً ويعيش من عاش عن بيان منه أيضاً وإعذار لا حجة لأحد عليه فالهلاك والحياة على هذا التأويل حقيقتان وقال ابن إسحاق وغيره‏:‏ معنى ‏{‏ليهلك‏}‏ أي ليكفر ‏{‏ويحيى‏}‏ أي ليؤمن فالحياة والهلاك على هذا مستعارتان والمعنى أن الله تعالى جعل قصة بدر عبرة وآية ليؤمن من آمن عن وضوح وبيان ويكفر أيضاً من كفر عن مثل ذلك، وقرأ الناس «ليهلِك» بكسر اللام الثانية وقرأ الأعمش «ليهلَك» بفتح اللام، ورواها عصمة عن أبي بكر عن عاصم، و«البينة» صفة أي عن قضية بينة، واللام الأولى في قوله ‏{‏ليهلك‏}‏ رد على اللام في قوله ‏{‏ليقضي‏}‏‏.‏

وقرأ ابن كثير في رواية قنبل وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص «من حيّ» بياء واحدة مشددة، وقرأ نافع وابن كثير في رواية البزي وعاصم في رواية أبي بكر «من حيِيَ» بإظهار الياءين وكسر الأولى وفتح الثانية، قال من قرأ «حيّ» فلأن الياء قد لزمتها الحركة فصار الفعل بلزوم الحركة لها مشبهاً بالصحيح مثل عض وشم ونحوه، ألا ترى أن حذف الياء من جوارٍ في الجر والرفع لا يطرد في حال النصب إذا قلت رأيت جواري لمشابهتها بالحركة سائر الحروف الصحاح، ومنه قوله ‏{‏كلا إذا بلغت التراقي‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 26‏]‏، وعلى نحو «حيّ» جاء قول الشاعر‏:‏ ‏[‏مجزوء الكامل‏]‏

عيّوا بأمرهم كما *** عيّتْ ببيضتها الحمامه

ومنه قول لبيد‏:‏ ‏[‏الرمل‏]‏

سألتني جارتي عن أمتي *** وإذا ما عيَّ ذو اللب سأل

وقول المتلمس‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فهذا أوان العرض حيّ ذبابه *** زنابيره والأزرق المتلمس

ويروى جن ذبابه، قال أبو علي وغيره‏:‏ هذا أن كل موضع تلزم الحركة فيه ياء مستقبلية فالإدغام في ماضيه جائز، ألا ترى أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏على أن يحيي الموتى‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 33، القيامة‏:‏ 40‏]‏ لا يجوز الإدغام فيه لأن حركة النصب غير لازمة، ألا ترى أنها تزول في الرفع وتذهب في الجزم، ولا يلتفت إلى ما أنشد بعضهم لأنه بيت مجهول‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

وكأنها بين النساء سبيكة *** تمشي بسدة بيتها فتعي

قال ابو علي وأما قراءة من قرأ «حيي»، فبين ولم يدغم، فإن سيبويه قال‏:‏ أخبرنا بهذه اللغة يونس، قال وسمعنا بعض العرب يقول أحيياء قال أبو حاتم‏:‏ القراءة إظهار الياءين والإدغام حسن فاقرأ كيف تعلمت فإن اللغتين مشهورتان في كلام العرب، والخط فيه ياء واحدة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذه اللفظة استوعب أبو علي القول فيما تصرف من «حيي» كالحي الذي هو مصدر منه وغيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 44‏]‏

‏{‏إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏43‏)‏ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏44‏)‏‏}‏

المهدوي ‏{‏إذ‏}‏ نصب بتقدير واذكر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ أو بدل من ‏{‏إذ‏}‏ المتقدمة وهو أحسن، وتظاهرت الروايات أن هذه الآية نزلت في رؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى فيها عدد الكفار قليلاً فأخبر بذلك أصحابه فقويت نفوسهم وحرضوا على اللقاء، فهذا معنى قوله ‏{‏في منامك‏}‏ أي في نومك قاله مجاهد وغيره‏.‏

وروي عن الحسن أن معنى قوله ‏{‏في منامك‏}‏ أي في عينك إذ هي موضع النوم، وعلى هذا التأويل تكون الرواية في اليقظة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا القول ضعيف، وعليه فسر النقاش وذكره عن المازني، والضمير على التأوليين من قوله ‏{‏يريكهم‏}‏ عائد على الكفار من أهل مكة، ومما يضعف ما روي عن الحسن أن معنى هذه الآية يتكرر في التي بعدها ن لأن النبي صلى الله عليه وسلم مخاطب في الثانية أيضاً، وقد تظاهرت الرواية أن النبي صلى الله عليه وسلم، انتبه وقال لأصحابه «أبشروا فلقد نظرت إلى مصارع القوم» ونحو هذا، وقد كان علم أنهم ما بين التسعمائة إلى الألف، فكيف يراهم ببصره بخلاف ما علم، والظاهر أنه رآهم في نومه قليلاً قدرهم وحالهم وبأسهم مهزومين مصروعين، ويحتمل أنه رآهم قليلاً عددهم، فكان تأويل رؤياه انهزامهم، فالقلة والكثرة على الظاهر مستعارة في غير العدد، كما قالوا‏:‏ المرء كثير بأخيه، إلى غير ذلك من الأمثلة، والفشل الخور عن ألأمر، إما بعد التلبس وإما بعد العزم على التلبس و‏{‏لتنازعتم‏}‏ أي لتخالفتم و‏{‏في الأمر‏}‏ يريد في اللقاء والحرب و‏{‏سلم‏}‏ لفظ يعم كل متخوف اتصل بالأمر أو عرض في وجهه فسلم الله من ذلك كله، وعبر بعض الناس أن قال «سلم لكم أمركم» ونحو هذا مما يندرج فيما ذكرناه وقوله ‏{‏إنه عليم بذات الصدور‏}‏ أي بإيمانكم وكفركم مجاز بحسب ذلك، وقرأ الجمهور من الناس «ولكنَّ الله سلم» بشد النون ونصب المكتوبة وقرأت فرقة «ولكن اللهُ» برفع المكتوبة، وقوله ‏{‏وإذ يريكموهم إذا التقيتم‏}‏ الآية، ‏{‏وإذ‏}‏ عطف على الأولى، وهذه الرؤية هي في اليقظة بإجماع، وهي الرؤية التي كانت حين التقوا ووقعت العين على العين، والمعنى أن الله تعالى لما أراد من إنفاذ قضائه في نصرة الإسلام وإظهاره قلل كل طائفة في عيون الأخرى، فوقع الخلل في التخمين والحزر الذي يستعمله الناس في هذا التجسد كل طائفة على الأخرى وتتسبب أسباب الحرب، وري في هذا عن عبد الله بن مسعود أنه قال‏:‏ لقد قلت ذلك اليوم لرجل إلى جنبي أتظنهم سبعين‏؟‏ قال بل هم مائة، قال فلما هزمناهم أسرنا منهم رجلاً فقلنا كم كنتم‏؟‏ قال ألفاً‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويرد على هذا المعنى في التقليل ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأل عما ينحرون كل يوم، فأخبر أنهم يوماً عشراً ويوماً تسعاً، قال هم ما بين التسعمائة إلى الألف، فإما أن عبد الله ومن جرى مجراه لم يعلم بمقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما أن نفرض التقليل الذي في الآية تقليل القدر والمهابة والمنزلة من النجدة، وتقدم في مثل قوله ‏{‏ليقضي الله أمراً كان مفعولاً‏}‏ والأمر المفعول المذكور في الآيتين هو للقصة بأجمعها، وذهب بعض الناس إلى أنهما لمعنيين من معاني القصة والعموم أولى، وقوله ‏{‏وإلى الله ترجع الأمور‏}‏ تنبيه على أن الحول بأجمعه لله وأن كل أمر فله وإليه، وقرأ الحسن وعيسى بن عمر والأعمش «تَرجِع» بفتح التاء وكسر الجيم، قال أبو حاتم‏:‏ وهي قراءة عامة الناس، وقرأ الأعرج وابن كثير وأبو عمرو ونافع وغيرهم «تُرجَع» بضم التاء وفتح الجيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 47‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏45‏)‏ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏46‏)‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ‏(‏47‏)‏‏}‏

هذا أمر بما فيه داعية النصر وسبب العز، وهي وصية من الله متوجهة بحسب التقييد التي في آية الضعف، ويجري مع معنى الآية قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهكذا ينبغي أن يكون المسلم في ولاية الإمارة والقضاء لا يطلب ولا يتمنى، فإن ابتلي صبر على إقامة الحق، و«الفئة» الجماعة أصلها فئوة وهي من فأوت أي جمعت، ثم أمر الله تعالى بإكثار ذكره هنالك إذ هو عصمة المستنجد ووزر المستعين، قال قتادة‏:‏ افترض الله ذكره عند أشغل ما يكونون عند الضراب بالسيوف‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ذكر خفي لأن رفع الأصوات في موطن القتال رديء مكروه إذا كان إلغاطاً، فأما إن كان من الجمع عند الحملة فحسن فاتٌّ في عضد العدو، وقال قيس بن عباد‏:‏ كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون الصوت عند ثلاث‏:‏ عند قراءة القرآن وعند الجنازة والقتال، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اطلبوا إجابة الدعاء عند القتال وإقامة الصلاة ونزول الغيث،» وقال ابن عباس يكره التلثم عند القتال‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولهذا والله أعلم يتسنن المرابطون بطرحه عند القتال على ضنانتهم به و‏{‏تفلحون‏}‏ تنالون بغيتكم وتبلغون آمالكم، وهذا مثل قول لبيد‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

أفلح بما شئت فقد يبلغ بالضْ *** ضعف وقد يخدع الأريب

وقوله ‏{‏وأطيعوا الله ورسوله‏}‏ الآية استمرار على الوصية لهم والأخذ على أيديهم في اختلافهم في أمر بدر وتنازعهم، و‏{‏تفشلوا‏}‏ نصب بالفاء في جواب النهي، قال أبو حاتم في كتاب عن إبراهيم «فتفشِلو» بكسر الشين وهذا غير معروف وقرأ جمهور الناس «وتذهبَ» بالتاء من فوق ونصب الباء، وقرأ هبيرة عن حفص عن عاصم «وتذهبْ ريحكم» بالتاء وجزم الباء، وقرأ عيسى بن عمر «ويذهبْ» بالياء من تحت وبجزم يذهب، وقرأ أبو حيوة «ويذهبَ» بالياء من تحت ونصب الباء، ورواها أبان وعصمة عن عاصم، والجمهور على أن الريح هنا مستعارة والمراد بها النصر والقوة كما تقول‏:‏ الريح لفلان إذا كان غالباً في أمر، ومن هذا المعنى قول الشاعر وهو عبيد بن الأبرص‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

كما حميناك يوم العنف من شطبٍ *** والفضل للقوم من ريح ومن عدد

وقال مجاهد‏:‏ «الريح» النصر والقوة، وذهبت ريح أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين نازعوه يوم أحد، وقال زيد بن علي ‏{‏وتذهب ريحكم‏}‏ معناه الرعب من قلوب عدوكم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا حسن بشرط أن يعلم العدو بالتنازع، وإذا لم يعلم فالذاهب قوة المتنازعين فيهزمون، وقال شاعر الأنصار‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

قد عوَّدَتْهمْ ظباهم أن تكونَ لهمْ *** ريحُ القتالِ وأسلابُ الذين لقوا

ومن استعارة الريح قول الآخر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

إذا هبت رياحك فاغتنمها *** فإن لكل عاصفة سكون

وهذا كثير مستعمل وقال ابن زيد وغيره‏:‏ الريح على بابها، وروي أن النصر لم يكن قط إلا بريح تهب فتضرب في وجوه الكفار، واستند بعضهم في هذه المقالة إلى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «نصرت بالصبا» وقال الحكم ‏{‏وتذهب ريحكم‏}‏ يعني الصبا إذ بها نصر محمد صلى الله عليه وسلم وأمته‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا إنما كان في غزوة الخندق خاصة، وقوله ‏{‏واصبروا‏}‏ إلى آخر الآية، تتميم في الوصية وعدة مؤنسة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم‏}‏ الآية، آية تتضمن الطعن على المشار إليهم وهم كفار قريش، وخرج ذلك على طريق النهي عن سلوك سبيلهم، والإشارة هي إلى كفار قريش بإجماع، و«البطر» الأشر وغمط النعمة والشغل بالمرح فيها عن شكرها، و«الرياء» المباهاة والتصنع بما يراه غيرك، وهو فعال من راءى يرائي سهلت همزته، وروي أن أبا سفيان لما أحس أنه قد تجاوز بعيره الخوف من النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه بعث إلى قريش فقال‏:‏ «إن الله قد سلم عيركم التي خرجتم إلى نصرتها فارجعوا سالمين قد بلغتم مرادكم»، فأتى رأي الجماعة على ذلك، فقال أبو جهل‏:‏ والله لا نفعل حتى نأتي بدراً، وكانت بدر سوقاً من أسواق العرب لها يوم موسم، فننحر عليها الإبل ونشرب الخمر وتعزف علينا القيان ويسمع بنا العرب ويهابنا الناس‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فهذا معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورئاء الناس‏}‏، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اللهم إن قريشاً أقبلت بفخرها وخيلائها تحادّك وتكذب رسولك، اللهم فاحنها الغداة»، وقال محمد بن كعب القرظي‏:‏ خرجت قريش بالقيان والدفوف، وقوله ‏{‏ويصدون عن سبيل الله‏}‏، أي غيرهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ لأنهم أحرى بذلك من أن يقتصر صدهم على أنفسهم، وقوله ‏{‏والله بما يعملون محيط‏}‏ آية تتضمن الوعيد والتهديد لمن بقي من الكفار ونفوذ القدر فيمن مضى بالقتل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 49‏]‏

‏{‏وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏48‏)‏ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏49‏)‏‏}‏

التقدير واذكروا إذ، والضمير في ‏{‏لهم‏}‏ عائد على الكفار، و‏{‏الشيطان‏}‏ إبليس نفسه، وحكى المهدوي وغيره أن التزيين في هذه الآية وما بعده من الأقوال هو بالوسوسة والمحادثة في النفوس‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويضعف هذا القول أن قوله ‏{‏وإني جار لكم‏}‏ ليس مما يلقى بالوسوسة، وقال الجمهور في ذلك بما روي وتظاهر أن إبليس جاء كفار قريش ففي السير لابن هشام أنه جاءهم بمكة، وفي غيرها أنه جاءهم وهم في طريقهم إلى بدر، وقد لحقهم خوف من بني بكر وكنانة لحروب كانت بينهم، فجاءهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وهو سيد من ساداتهم، فقال لهم «إني جار لكم» ولن تخافوا من قومي وهم لكم أعوان على مقصدكم ولن يغلبكم أحد، فسروا عند ذلك ومضوا لطيتهم وقال لهم أنتم تقاتلون عن دين الآباء ولن تعدموا نصراً‏.‏

فروي أنه لما التقى الجمعان كانت يده في يد الحارث بن هشام، فلما رأى الملائكة نكص فقال له الحارث أتفر يا سراقة فلم يلو عليه، ويروى أنه قال له ما تضمنت الآية‏.‏

وروي أن عمرو بن وهب أو الحارث بن هشام قال له أين سراقة‏؟‏ فلم يلو ومثل عدو الله فذهب ووقعت الهزيمة، فتحدث أن سراقة فر بالناس، فبلغ ذلك سراقة بن مالك، فأتى مكة فقال لهم‏:‏ والله ما علمت بشيء من أمركم حتى بلغتني هزيمتكم ولا رأيتكم ولا كنت معكم، وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال‏:‏ جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه رأيته في صورة رجل من بني مدلج، فقال ‏{‏لا غالب لكم اليوم‏}‏ الآية، و‏{‏اليوم‏}‏ ظرف، والعمل فيه معنى نفي الغلبة، ويحتمل أن يكون العامل متعلق ‏{‏لكم‏}‏ وممتنع أن يعمل ‏{‏غالب‏}‏ لأنه كان يلزم أن يكون لا غالباً، وقوله ‏{‏إني جار لكم‏}‏ معناه فأنتم في ذمتي وحماي، و‏{‏وتراءت‏}‏ تفاعلت من الرؤية أي رأى هؤلاء هؤلاء، وقرأ الأعمش وعيسى بن عمر «ترأت» مقصورة، وحكى أبو حاتم عن الأعمش أنه أمال والراء مرققة ثم رجع عن ذلك، وقوله ‏{‏نكص على عقيبه‏}‏ معناه رجع من حيث جاء، وأصل النكوص في اللغة الرجوع القهقرى، وقال زهير‏:‏

هم يضربون حبيك البيض إذ لحقوا *** لا ينكصون إذا ما استلحموا وحموا

كذا أنشد الطبري، وفي رواية الأصمعي إذا ما استلأموا وبذلك فسر الطبري هذه الآية، وفي ذلك بعد، وإنما رجوعه في هذه الآية مشبه بالنكوص الحقيقي، وقال اللغويون‏:‏ النكوص، الإحجام عن الشيء، يقال أراد أمراً ثم نكص عنه، وقال تأبَّطَ شرّاً‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

ليس النكوصُ على الأدبار مكرمةً *** إن المكارم إقدامٌ علىلأسَل

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فليس هنا قهقرى بل هو فرار، وقال مؤرج‏:‏ نكص هي رجع بلغة سليم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقوله ‏{‏على عقبيه‏}‏ يبين أنه إنما أراد الانهزام والرجوع في ضد إقباله، وقوله ‏{‏إني بريء منكم‏}‏ هو خذلانه لهم وانفصاله عنهم، وقوله ‏{‏إني أرى ما لا ترون‏}‏ يريد الملائكة وهو الخبيث إنما شرط أن لا غالب من الناس فلما رأى الملائكة وخرق العادة خاف وفرَّ، وفي الموطأ وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ما ريء الشيطان في يوم أقل ولا أحقر ولا أصغر منه في يوم عرفة، لما يرى من نزول الرحمة إلا ما رأى يوم بدر، قيل وما رأى يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ رأى الملائكة يزعمها جبريل»‏.‏

وقال الحسن‏:‏ رأى إبليس جبريل يقود فرسه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو معتجر ببردة وفي يده اللجام، وقوله ‏{‏إني أخاف الله‏}‏ قيل إن هذه معذرة منه كاذبة ولم تلحقه قط مخافة، قاله قتادة وابن الكلبي، وقال الزجّاج وغيره‏:‏ بل خاف مما رأى من الأمر وهوله وأنه يومه الذي أنظر إليه، ويقوي هذا أنه رأى خرق العادة ونزول الملائكة للحرب، وحكى الطبري بسنده أنه لما انهزم المشركون يوم بدر حين رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبضة من التراب وجوه الكفار أقبل جبريل صلى الله عليه وسلم إلى إبليس، فلما رآه إبليس وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع يده ثم ولى مدبراً، فقال له الرجل أي سراقة تزعم أنك لنا جار‏؟‏ فقال ‏{‏إني أرى ما لا ترون‏}‏ الآية، ثم ذهب، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض‏}‏ الآية، العامل في ‏{‏إذ‏}‏ ‏{‏زين‏}‏ أو ‏{‏نكص‏}‏ لأن ذلك الموقف كان ظرفاً لهذه الأمور كلها، وقال المفسرون إن هؤلاء الموصوفين بالنفاق ومرض القلوب إنما هم من أهل عسكر الكفار لما أشرفوا على المسلمين ورأوا قلتهم وقلة عددهم، قالوا مشيرين إلى المسلمين ‏{‏غرَّ هؤلاء دينهم‏}‏ أي اغتروا فأدخلوا نفوسهم فيما لا طاقة لهم به‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والنفاق أخص من مرض القلب لأن مرض القلب مطلق على الكافر وعلى من اعترضته شبهة وعلى من بينهما، وكني بالقلوب عن الاعتقادات إذ القلوب محلها، وروي في نحو هذا التأويل عن الشعبي أن قوماً ممن كان الإسلام داخل قلوبهم خرجوا مع المشركين إلى بدر، منهم من أكره ومنهم من داجى وداهن، فلما أشرفوا على المسلمين ورأوا قلتهم ارتابوا واعتقدوا أنهم مغلوبون، فقالوا ‏{‏غر هؤلاء دينهم‏}‏، قال مجاهد‏:‏ منهم قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود، وعلي بن أمية بن خلف، والعاصي بن أمية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولم يذكر أحد ممن شهد بدراً بنفاق إلا ما ظهر بعد ذلك من معتب بن قشير أخي بني عمرو بن عوف، فإنه القائل يوم أحد ‏{‏لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 154‏]‏ وقد يحتمل أن يكون منافقو المدينة لما وصلهم خروج قريش في قوة عظيمة قالوا عن المسلمين هذه المقالة، فأخبر الله بها نبيه في هذه الآية، ثم أخبر الله عز وجل بأن من توكل على الله واستند إليه، فإن عزة الله تعالى وحكمته كفيلة بنصره وشد أعضاده، وخرجت العبارة عن هذا المعنى بأوجز لفظ وأبلغه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 52‏]‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏50‏)‏ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏51‏)‏ كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏52‏)‏‏}‏

هذه الآية تتضمن التعجيب مما حل بالكفار يوم بدر، قاله مجاهد وغيره، وفي ذلك وعيد لمن بقي منهم، وحذف جواب، ‏{‏لو‏}‏ إبهام بليغ، وقرأ جمهور السبعة والناس «يتوفى» بالياء فعل فيه علامة التذكير إلى مؤنث في اللفظ، وساغ ذلك أن التأنيث غير حقيقي، وارتفعت ‏{‏الملائكة‏}‏ ب ‏{‏يتوفى‏}‏، وقال بعض من قرأ هذه القراءة إن المعنى إذ يتوفى الله الذين كفروا و‏{‏الملائكة‏}‏ رفع بالابتداء، و‏{‏يضربون‏}‏ خبره والجملة في موضع الحال‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويضعف هذا التأويل سقوط واو الحال فإنها في الإغلب تلزم مثل هذا، وقرأ ابن عامر من السبعة والأعرج «تتوفى» بالتاء على الإسناد إلى لفظ «الملائكة»، و‏{‏يضربون‏}‏ في موضع الحال، وقوله ‏{‏وأدبارهم‏}‏ قال جمهور المفسرين يريد أستاههم، ولكن الله كريم كنى، وقال ابن عباس أراد ظهورهم وما أدبر منهم، ومعنى هذا أن الملائكة كانت تلحقهم في حال الإدبار فتضرب أدبارهم، فأما في حال الإقبال فبين تمكن ضرب الوجوه، وروى الحسن أن رجلاً قال‏:‏ يا رسول الله رأيت في ظهر أبي جهل مثل الشراك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ذلك ضرب الملائكة»، وعبر بجمع الملائكة، وملك الموت واحد إذ له على ذلك أعوان من الملائكة، وقوله ‏{‏وذوقوا عذاب الحريق‏}‏ قيل كانوا يقولون للكفار حينئذ هذا اللفظ فحذف يقولون اختصار، وقيل معناه وحالهم يوم القيامة أن يقال لهم هذا، و‏{‏الحريق‏}‏ فعيل من الحرق، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بما قدمت أيديكم‏}‏ يحتمل أن يكون من قول الملائكة في وقت توفيتهم لهم على الصورة المذكورة، ويحتمل أن يكون كلاماً مستأنفاً تقريعاً من الله عز وجل للكافرين حيهم وميتهم، ‏{‏وأن‏}‏ يصح أن تكون في موضع رفع على تقدير والحكم أن، ويصح أن تكون في موضع خفض عطفاً على ما في قوله ‏{‏بما قدمت‏}‏، وقال مكي والزهراوي‏:‏ ويصح أن تكون في موضع نصب بإسقاط الباء تقديره «وبأن»، فلما حذفت الباء حصلت في موضع نصب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا غير متجه ولا بيّن إلا أن تنصب بإضمار فعل، وقوله ‏{‏كدأب آل فرعون‏}‏ الآية، الدأب‏:‏ العادة في كلام العرب، ومنه قول امرئ القيس‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

كدأبك من أم الحويرث قبلها *** وجارتها أم الرباب بمأسل

ويروى كدينك، ومنه قول خراش بن زهير العامري‏:‏

فما زال ذاك الدأب حتى تخاذلت *** هوازن وارفضَّت سليم وعامر

وهو مأخوذ من دأب على العمل إذا لزمه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم، لصاحب الجميل الذي هش إليه وأقبل نحوه وقد ذل ودمعت عيناه‏:‏ «إنه شكا إليّ أنك تجيعه وتدئبه فكأن العادة دؤوب ما»

وقال جابر بن زيد وعامر الشعبي ومجاهد وعطاء‏:‏ المعنى كسنن آل فرعون، ويحتمل أن يراد كعادة آل فرعون وغيرهم، فتكون عادة الأمم بجملتها لا على انفراد أمة، إذ آل فرعون لم يكفروا وأهلكوا مراراً بل لكل أمة مرة واحدة، ويحتمل أن يكون المراد كعادة الله فيهم، فأضاف العادة إليهم إذ لهم نسبة إليها يضاف المصدر إلى الفاعل وإلى المفعول، والكاف من قوله ‏{‏كدأب‏}‏ يجوز أن يتعلق بقوله ‏{‏وذوقوا‏}‏ وفيه بعد، والكاف على هذا في موضع نصب نعت لمصدر محذوف، ويجوز أن تتعلق بقوله ‏{‏قدمت أيديكم‏}‏ وموضعها أيضاً على هذا نصب كما تقدم، ويجوز أن يكون معنى الكلام الأمر مثل دأب آل فرعون فتكون الكاف في موضع خبر الابتداء، وقوله ‏{‏فأخذهم‏}‏ معناه أهلكهم وأتى عليهم بقرينة قوله ‏{‏بذنوبهم‏}‏ ثم ابتدأ الإخبار بقوة الله تعالى وشدة عقابه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 56‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏53‏)‏ كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ ‏(‏54‏)‏ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏55‏)‏ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ في موضع رفع على خبر الابتداء تقديره عند سيبويه الأمر ذلك، ويحتمل أن يكون التقدير وجب ذلك، والباء باء السبب، وقوله ‏{‏لم يك مغيراً‏}‏ جزم ب ‏{‏لم‏}‏ وجزمه بحذف النون، والأصل يكون فإذا دخلت لم جاء لم يكن، ثم قالوا «لم يك مغيراً» كأنهم قصدوا التخفيف فتوهموا دخول «لم» على يكن فحذفت النون للجزم، وحسن ذلك فيها لمشابهتها حروف اللين التي تحذف للجزم كما قالوا لم أبال، ثم قالوا لم أبل فتوهموا دخول لم على أبال‏؟‏ ومعنى هذه الآية الإخبار بأن الله عز وجل إذا أنعم على قوم نعمة فإنه بلطفه ورحمته لا يبدأ بتغيرها وتكديرها حتى يجيء ذلك منهم بأن يغيروا حالهم التي تراد وتحسن منهم، فإذا فعلوا ذلك وتلبسوا بالتكسب للمعاصي أو الكفر الذي يوجب عقابهم غير الله نعمته عليهم بنقمته منهم، ومثال هذا نعمة الله على قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم فكفروا ما كان يجب أن يكونوا عليه، فغير الله تلك النعمة بأن نقلها إلى غيرهم من الأنصار وأحل بهم عقوبته‏.‏

وقوله ‏{‏وأن‏}‏ عطف على الأولى، و‏{‏سميع عليم‏}‏ أي لكل وبكل ما يقع من الناس في تغيير ما بأنفسهم لا يخفى عليه من ذلك سر ولا جهر، وقوله ‏{‏كدأب آل فرعون‏}‏ الآية، الكاف من ‏{‏كدأب‏}‏ في هذه الآية متعلقة بقوله ‏{‏حتى يغيروا‏}‏، وهذا التكرير هو لمعنى ليس للأول، إذ الأول دأب في أن هلكوا الآية الأولى، والإشارة بقوله ‏{‏الذين من قبلهم‏}‏ إلى قوم هود وصالح ونوح وشعيب وغيرهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن شر الدواب‏}‏ إلى ‏{‏يتقون‏}‏ المعنى المقصود تفضيل الدواب الذميمة كالخنزير والكلب العقور على الكافرين الذين حتم عليهم بأنهم لا يؤمنون، وهذا الذي يقتضيه اللفظ، وإما الكافر الذي يؤمن فيما يستأنفه من عمره فليس بشر الدواب، وقوله ‏{‏الذين عاهدت منهم‏}‏ يحتمل أن يريد أن الموصوف ب ‏{‏شر الدواب‏}‏ هم الذين لا يؤمنون المعاهدون من الكفار فكانوا شر الدواب على هذا بثلاثة أوصاف‏:‏ الكفر والموافاة عليه والمعاهدة مع النقض، و‏{‏الذين‏}‏ على هذا بدل البعض من الكل، ويحتمل أن يريد بقوله ‏{‏الذين عاهدت‏}‏ ‏{‏الذين‏}‏ الأولى، فتكون بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة، والمعنى على هذا الذين عاهدت فرقة أو طائفة منهم، ثم ابتدأ يصف حال المعاهدين بقوله‏:‏ ‏{‏ثم ينقضون عهدهم في كل مرة‏}‏ والمعاهدة في هذه الآية المسالمة وترك الحرب، وأجمع المتأولون أن الآية نزلت في بني قريظة وهي بعد تعم كل من اتصف بهذه الصفة إلى يوم القيامة، ومن قال إن المراد ب ‏{‏الدواب‏}‏ الناس فقول لا يستوفي المذمة، ولا مرية في أن الدواب تعم الناس وسائر الحيوان، وفي تعميم اللفظة في هذه الآية استيفاء المذمة، وقوله ‏{‏في كل مرة‏}‏ يقتضي أن الغدر قد كان وقع منهم وتكرر ذلك، وحديث قريظة هو أنهم عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ألا يحاربوه ولا يعينوا عليه عدواً من غيرهم، فلما اجتمعت الأحزاب على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة غلب على ظن بني قريظة أن النبي صلى الله عليه وسلم، مغلوب ومستأصل، وخدع حيي بن أخطب النضري كعب بن أسد القرظي صاحب بني قريظة وعهدهم، فغدروا ووالوا قريشاً وأمدوهم بالسلاح والأدراع، فلما انجلت تلك الحال عن النبي صلى الله عليه وسلم، أمره الله بالخروج إليهم وحربهم فاستنزلوا، وضربت أعناقهم بحكم سعد بن معاذ، واستيعاب القصة في سيرة ابن هشام، وإنما اقتضبت منها ما يخص تفسير الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 59‏]‏

‏{‏فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏57‏)‏ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ‏(‏58‏)‏ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

دخلت النون مع «إما» تأكيداً ولتفرق بينها وبين إما التي هي حرف انفصال في قولك جاءني إما زيد وإما عمرو ‏{‏وتثقفهم‏}‏ معناه وتحصلهم في ثقافك أو تلقاهم بحال ضعف تقدر عليهم فيها وتغلبهم، وهذا لازم من اللفظ لقوله ‏{‏في الحرب‏}‏، وقيل ثقف أخذ بسرعة ومن ذلك قولهم‏:‏ رجل ثقف لقف، وقال بعض الناس معناه تصادفنهم إلى نحو هذا من الأقوال التي لا ترتبط في المعنى، وذلك أن المصادف يغلب فيمكن التشريد به، وقد لا يغلب، والثقاف في اللغة ما تشد به القناة ونحوها، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

إن قناتي لنبع ما يؤيسها *** عض الثقاف ولا دهن ولا نار

وقال آخر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

تدعو قعيناً وقد عضّ الحديد بها *** عض الثقاف على صم الأنابيب

وقوله ‏{‏فشرد‏}‏ معناه طرد وخوف وأبعده عن مثل فعلهم، والشريد المبعد عن وطن أو نحوه، والمعنى بفعل تفعله بهم من قتل أو نحوه يكون تخويفاً لمن خلفهم أي لمن يأتي بعدهم بمثل ما أتوا به، وسواء كان معاصراً لهم أم لا، وما تقدم الشيء فهو بين يديه وما تأخر عنه فهو خلفه، فمعنى الآية فإن أسرت هؤلاء الناقضين في حربك لهم فافعل بهم من النقمة ما يكون تشريداً لمن يأتي خلفهم في مثل طريقتهم، والضمير في ‏{‏لعلهم‏}‏ عائد على الفرقة المشردة، وقال ابن عباس‏:‏ المعنى نكل بهم من خلفهم، وقالت فرقة «شرد بهم» معناه سمع بهم، حكاه الزهراوي عن أبي عبيدة، والمعنى متقارب لأن التسميع بهم في ضمن ما فسرناه أولاً، وفي مصحف عبد الله «فشرذ» بالذال منقوطة، وهي قراءة الأعمش ولم يحفظ شرذ في لغة العرب ولا وجه لها إلا أن تكون الذال المنقوطة تبدل من الدال كما قالوا لحم خراديل وخراذيل، وقرأ أبو حيوة وحكاها المهدوي عن الأعمش بخلاف عنه‏:‏ «مِن خلفهم» بكسر الميم من قوله ‏{‏من‏}‏ وخفض الفاء من قوله ‏{‏خلفهم‏}‏ والترجي في قوله ‏{‏لعلهم‏}‏ بحسب البشر، و‏{‏يذكرون‏}‏ معناه يتعظون‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإما تخافن‏}‏ الآية قال أكثر المؤلفين في التفسير‏:‏ إن هذه الآية هي من بني قريظة، وحكاه الطبري عن مجاهد، والذي يظهر من ألفاظ القرآن أمر بني قريظة قد انقضى عند قوله ‏{‏فشرد بهم من خلفهم‏}‏ ثم ابتدأ تبارك وتعالى في هذه الآية بأمره بما يصنعه في المستقبل مع من يخاف منه خيانة إلى سالف الدهر، وبنو قريظة لم يكونا في حد من تخاف خيانته فترتب فيهم هذه الآية وإنما كانت خيانتهم ظاهره مشتهرة، فهذه الآية هي عندي فيمن يستقبل حاله من سائر الناس غير بني قريظة، وخوف الخيانة بأن تبدو جنادع الشر من قبل المعاهدين وتتصل عنه أقوال وتتحسس من تلقائهم مبادئ الغدر فتلك المبادئ معلومة والخيانة التي هي غايتهم مخوفة لا متيقنة، وحيئنذ ينبذ إليهم على سواء، فإن التزموا السلم على ما يجب وإلا حوربوا، وبنو قريظة نبذوا العهد مرتين، وقال يحيى بن سلام‏:‏ تخاف في هذه الآية بمعنى تعلم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وليس كذلك، وقوله ‏{‏خيانة‏}‏ يقتضي حصول عهد لأن من ليس بينك وبينه عهد فليست محاربته لك خيانة، فأمر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم إذا أحس من أهل عهد ما ذكرنا، وخاف خيانتهم أن يلقي إليهم عهدهم، وهو النبذ ومفعول قوله ‏{‏فانبذ‏}‏ محذوف تقديره إليهم عهدهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وتقتضي قوة هذا اللفظ الحض على حربهم ومناجزتهم إن لم يستقيموا، وقوله ‏{‏على سواء‏}‏ قيل معناه يكون الأمر في بيانه والعلم به على سواء منك ومنهم، فتكونون فيه أي في استشعار الحرب سواء، وقيل معنى قوله ‏{‏على سواء‏}‏ أي على معدلة أي فذلك هو العدل والاستواء في الحق، قال المهدوي‏:‏ معناه جهراً لا سراً‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا نحو الأول، وقال الوليد بن مسلم‏:‏ ‏{‏على سواء‏}‏ معناه على مهل كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتهم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ واللغة تأبى هذا القول، وذكر الفراء أن المعنى انبذ إليهم على اعتدال وسواء من الأمر أي بيّن لهم على قدر ما ظهر منهم لا تفرط ولا تفجأ بحرب، بل أفعل بهم مثلما فعلوا بك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ يعني موازنة ومقايسة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يحب الخائنين‏}‏ يحتمل أن يكون طعناً على الخائنين من الذين عاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يريد فانبذ إليهم على سواء حتى تبعد عن الخيانة، فإن الله لا يحب الخائنين فيكون النبذ على هذا التأويل لأجل أن الله لا يحب الخائنين، والسواء في كلام العرب قد يكون بمعنى العدل والمعدلة، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلى كلمة سواء بيننا وبينكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 64‏]‏ ومنه قول الراجز‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

فاضرب وجوه الغدر الأعداء *** حتى يجيبوك إلى السواء

وقد يكون بمعنى الوسط، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في سواء الجحيم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 55‏]‏ ومنه قول حسان بن ثابت‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

يا ويح أنصار النبي ورهطه *** بعد المغيَّب في سواء الملحدِ

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يحسبنَّ الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون‏}‏ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم والكسائي «ولا تحسِبن» بالتاء مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وبكسر السين غير عاصم فإنه فتحها، و‏{‏الذين كفروا‏}‏ مفعول أول، و‏{‏سبقوا‏}‏ مفعول ثان، والمعنى فأتوا بأنفسهم وأنجوها «إنهم لا يعجزون» بكسر ألف «إن» على القطع والابتداء، و‏{‏يعجزون‏}‏ معناه مفلتون ويعجزون طالبهم، فهو معدى عجز بالهمزة تقول عجز زيد وأعجزه غيره وعجزه أيضاً، قال سويد‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

وأعجزنا أبو ليلى طفيل *** صحيح الجلد من أثر السلاحِ

وروي أن الآية نزلت فيمن أفلت من الكفار في حرب النبي صلى الله عليه وسلم، كقريش في بدر وغيرهم، فالمعنى لا تظنهم ناجين بل هم مدركون، وقيل معناه لا يعجزون في الدنيا، وقيل المراد في الآخرة، قال أبو حاتم وقرأ مجاهد وابن كثير وشبل «ولا تِحسبن» بكسر التاء، وقرأ الأعرج وعاصم وخالد بن الياس «تَحسَبن» بفتح التاء من فوق وبفتح السين، وقرأ الأعمش «ولا يَحسَب» بفتح السين والياء من تحت وحذف النون، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وأبو عبد الرحمن وابن محيصن وعيسى «ولا يحسِبنّ» بياء من تحت وسين مكسورة ونون مشددة، وقرأ حفص عن عاصم وابن عامر وحمزة «ولا يحسبْنَ» بالياء على الكناية عن غائب وبفتح السين، فإما أن يكون في الفعل ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، أو يكون التقدير ولا يحسبن أحد، ويكون ‏{‏قوله الذين كفروا‏}‏ مفعولاً أولاً و‏{‏سبقوا‏}‏ مفعولاً ثانياً، وإما أن يكون ‏{‏الذين كفروا‏}‏ هم الفاعلون، ويكون المفعول الأول مضمراً و‏{‏سبقوا‏}‏ مفعول ثان، وتقدير هذا الوجه ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا، وإما أن يكون ‏{‏الذين كفروا‏}‏ هو الفاعل وتضمر «أن» فيكون التقدير ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا، وتسد أن سبقوا مسد المفعولين، قال الفارسي‏:‏ ويكون هذا كما تأوله سيبويه في قوله عز وجل قال ‏{‏أفغير الله تأمروني أعبد‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 64‏]‏ التقدير أن أعبد‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ونحوه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى *** قال أبو علي‏:‏ وقد حذفت «أن» وهي مع صلتها في موضع الفاعل، وأنشد أحمد بن يحيى في ذلك‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وما راعنا إلا يسير بشرطة *** وعهدي به قيناً يفش بكير

وقرأ ابن عامر وحده من السبعة «أنهم لا يعجزون» بفتح الألف من «أنهم»، ووجهه أن يقدر بمعنى لأنهم لا يعجزون أي لا تحسبن عليهم النجاة لأنهم لا ينجون، وقرأ الجمهور «يعْجزون» بسكون العين، وقرأ بعض الناس فيما ذكر أبو حاتم «يعَجّزون» بفتح العين وشد الجيم، وقرأ ابن محيصن «يعجزونِ» بكسر النون ومنحاها يعجِزوني بإلحاق الضمير، قال الزجّاج‏:‏ الاختيار فتح النون ويجوز كسرها على المعنى أنهم لا يعجزونني، وتحذف النون الأولى لاجتماع النونين، كما قال الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

تراه كالثغام يعل مسكاً *** يسوء الفاليات إذا فليني

قال القاضي أبو محمد‏:‏ البيت لعمرو بن معد يكرب وقال أبو الحسن الأخفش في قول متمم بن نويرة‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

ولقد علمت ولا محالة أنَّني *** للحادثات فهل تريني أجزع

هذا يجوز على الاضطرار، فقال قوم حذف النون الأولى وحذفها لا يجوز لأنها موضع الإعراب، وقال أبو العباس المبرد‏:‏ أرى فيما كان مثل هذا حذف الثانية، وهكذا كان يقول في بيت عمرو بن معد يكرب، وفي مصحف عبد الله «ولا يحسب الذين كفروا أنهم سبقوا أنهم لا يعجزون» قال أبو عمرو الداني بالياء من تحت وبغير نون في يحسب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وذكرها الطبري بنون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 61‏]‏

‏{‏وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ‏(‏60‏)‏ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏61‏)‏‏}‏

المخاطبة في هذه الآية لجميع المؤمنين، والضمير في قوله ‏{‏لهم‏}‏ عائد على الذين ينبذ إليهم العهد، أو على الذين لا يعجزون على تأويل من تأول ذلك في الدنيا، ويحتمل أن يعيده على جميع الكفار المأمور بحربهم في ذلك الوقت ثم استمرت الآية في الأمة عامة، إذ الأمر قد توجه بحرب جميع الكفار وقال عكرمة مولى ابن عباس‏:‏ «القوة» ذكور الخيل و«الرباط» إناثها، وهذا قول ضعيف، وقالت فرقة‏:‏ القوة الرمي واحتجت بحديث عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي» ثلاثاً، وقال السدي‏:‏ القوة السلاح، وذهب الطبري إلى عموم اللفظة، وذكر عن مجاهد أنه رئي يتجهز وعنده جوالق فقال‏:‏ هذا من القوة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا هو الصواب، و‏{‏الخيل‏}‏ والمركوب في الجملة والمحمول عليه من الحيوان والسلاح كله والملابس الباهتة والآلات والنفقات كلها داخلة في القوة، وأمر المسلمون بإعداد ما استطاعوا من ذلك، ولما كانت الخيل هي أصل الحروب وأوزارها والتي عقد الخير في نواصيها وهي أقوى القوة وحصون الفرسان خصها الله بالذكر تشريفاً على قوله ‏{‏من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 98‏]‏ وعلى نحو قوله ‏{‏فاكهة ونخل ورمان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 68‏]‏ وهذا كثير، ونحوه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً،» هذا في البخاري وغيره، وقال في صحيح مسلم «جعلت لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً»، فذكرت التراب على جهة التحفي به إذ هو أعظم أجزاء الأرض مع دخوله في عموم الحديث الآخر، ولما كانت السهام من أنجع ما يتعاطى في الحرب وأنكاه في العدو وأقربه تناولاً للأرواح خصها رسول الله صلى الله عيله وسلم بالذكر والتنبيه عليها، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الله تعالى يدخل بالسهم الواحد الثلاثة من المسلمين الجنة، صانعة والذي يحتسب في صنعته والذي يرمي به» وقال عمرو بن عنبسة‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «من رمى بسهم في سبيل الله أصاب العدو أو أخطأ فهو كعتق رقبة» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «ارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إليّ من أن تركبوا» و‏{‏رباط الخيل‏}‏ جمع ربط ككلب وكلاب، ولا يكثر ربطها إلا وهي كثيرة، ويجوز أن يكون الرباط مصدراً من ربط كصاح صياحاً ونحوه لأن مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس، وإن جعلناه مصدراً من رابط فكأن ارتباط الخيل واتخاذها يفعله كل واحد لفعل آخر له فترابط المؤمنون بعضهم بعضاً، فإذا ربط كل واحد منهم فرساً لأجل صاحبه فقد حصل بينهم رباط، وذلك الذي حض في الآية عليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏

«من ارتبط فرساً في سبيل الله فهو كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها»، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وقرأ الحسن وعمرو بن دينار وأبو حيوة «من رُبُط» بضم الراء والباء وهو جمع رباط ككتاب وكُتُب، كذا نصبه المفسرون وفي جمعه وهو مصدر غير مختلف نظر و‏{‏ترهبون‏}‏ معناه تفزعون وتخوفون، والرهبة الخوف، قال طفيل الغنوي‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

ويلُ أم حيّ دفعتم في نحورهمُ *** بني كلاب غداة الرعب والرهب

ومنه راهب النصارى، يقال رهب إذا خاف، ف ‏{‏ترهبون‏}‏ معدى بالهمزة، وقرأ الحسن ويعقوب «تُرَهّبون» بفتح الراء وشد الهاء معدى بالتضعيف، ورويت عن أبي عمرو بن العلاء قال أبو حاتم‏:‏ وزعم عمرو أن الحسن قرأ «يرهبون» بالياء من تحت وخففها، فهو على هذا المعدى بالتضعيف، وقرأ ابن عباس وعكرمة «تخزون به عدو الله»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ذكرها الطبري تفسيراً لا قراءة، وأثبتها أبو عمرو الداني قراءة، وقوله ‏{‏عدو الله وعدوكم‏}‏ ذكر الصفتين وإن كانت متقاربة إذ هي متغايرة المنحى، وبذكرهما يتقوى الذم وتتضح وجوه بغضنا لهم وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «عدواً لله» بتنوين عدو وبلام في المكتوبة’ والمراد بهاتين الصفتين من قرب وصاقب من الكفار وكانت عداوته متحركة بعد، ويجوز أن يراد بها جميع الكفار ويبين هذا من اختلافهم في قوله ‏{‏وآخرين من دونهم‏}‏ الآية، قال مجاهد الإشارة بقوله ‏{‏وآخرين‏}‏ إلى قريظة، وقال السدي‏:‏ إلى أهل فارس، وقال ابن زيد‏:‏ الإشارة إلى المنافقين، وقالت فرقة‏:‏ الإشارة إلى الجن، وقالت فرقة‏:‏ هم كل عدو للمسلمين غير الفرقة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرد بهم من خلفهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا الخلاف إنما ينبغي أن يترتب على ما يتوجه من المعنى في قوله ‏{‏لا تعلمونهم‏}‏ فإذا حملنا قوله ‏{‏لا تعلمونهم‏}‏ على عمومه ونفينا علم المؤمنين بهذه الفرقة المشار إليها جملة واحدة كان العلم بمعنى المعرفة لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد لم يثبت من الخلاف في قوله ‏{‏آخرين‏}‏ إلا قول من قال الإشارة إلى المنافقين وقول من قال‏:‏ الإشارة إلى الجن، وإذا جعلنا قوله ‏{‏لا تعلمونهم‏}‏ محاربين أو نحو هذا مما تفيد به نفي العلم عنهم حسنت الأقوال، وكان العلم متعدياً إلى مفعولين‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ هذا الوجه أشبه عندي، ورجح الطبري أن الإشارة إلى الجن وأسند في ذلك ما روي من أن صهيل الخيل ينفر الجن وأن الشيطان لا يدخل داراً فيها فرس الجهاد ونحو هذا، وفيه على احتماله نظر، وكان الأهم في هذه الآيات أن يبزر معناها في كل ما يقوي المسلمين على عدوهم من الإنس وهم المحاربون والذين يدافعون على الكفر ورهبتهم من المسلمين على عدوهم من الإنس وهم المحاربون والذين يدافعون على الكفر ورهبتهم من المسلمين هي النافعة للإسلام وأهله ورهبة الجن وفزعهم لا غناء له في ظهور الإسلام، بل هو تابع لظهور الإسلام وهو أجنبي جداً والأولى أن يتأول المسلمين إذا ظهروا وعزوا هابهم من جاورهم من العدو المحارب لهم، فإذا اتصلت حالهم تلك بمن بعد من الكفار داخلته الهيبة وإن لم يقصد المسلمون إرهابهم فأولئك هم الآخرون، ويحسن أن يقدر قوله ‏{‏لا تعلمونهم‏}‏ بمعنى لا تعلمونهم فازعين راهبين ولا تظنون ذلك بهم، والله تعالى يعلمهم بتلك الحالة، ويحسن أيضاً أن تكون الإشارة إلى المنافقين على جهة الطعن عليهم والتنبيه على سوء حالهم وليستريب بنفسه كل من يعلم منها نفاقاً إذا سمع الآية، ولفزعهم ورهبتهم غناء كثير في ظهور الإسلام وعلوه، وقوله ‏{‏من دونهم‏}‏ بمنزلة قولك دون أن يكون هؤلاء ف «دون» في كلام العرب و«من دون» يقتضي عدم المذكور بعدها من النازلة التي هي فيها القول، ومنه المثل‏:‏

وأمر دون عبيدة الوذم *** تفضل تعالى بعدة المؤمنين على إنفاقهم في سبيل الله بأن النفقة لا بد أن توفى أي تجازى ويثاب عليها، ولزوم هذا هو في الآخرة، وقد يمكن أن يجازي الله تعالى بعض المؤمنين في الدنيا مجازاة مضافة إلى مجازاة الآخرة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن جنحوا للسلم فاجنح لها‏}‏ الآية، الضمير في ‏{‏جنحوا‏}‏ هو للذين نبذ إليهم على سواء، وجنح الرجل إلى الأمر إذا مال إليه وأعطى يده فيه، ومنه قيل للأضلاع جوانح لأنها مالت على الحشوة وللخباء جناح وجنحت الإبل إذا مالت أعناقها في السير وقال ذو الرمة‏:‏

إذا مات فوق الرحل أحييت روحه *** بذكراك والعيس المراسيل جنح

وجنح الليل إذا أقبل وأمال أطنابه على الأرض ومنه قول النابغة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

جوانح قد أيقنَّ أن قبيله *** إذا ما التقى الجمعان أول غالب

أي موائل، وقال لبيد‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

جنوح الهالكيِّ على يديه *** مكبّاً يجتلي نُقَبَ النصال

وقرأ جمهور الناس «للسَّلم» بفتح السين وشدها وقرأ عاصم في رواية بكر «للسِّلم» بكسرها وشدها هما لغتان في المسالمة، ويقال أيضاً «السَّلَم» بفتح السين واللام ولا أحفظها قراءة، وقرأ جمهور الناس «فاجنَح» بفتح النون وهي لغة تميم، وقرأ الأشهب العقيلي «فاجنُح» وهي لغة قيس بضم النون، قال أبو الفتح وهذه القراءة هي القياس، لأن فعل إذا كان غير متعد فمستقبله يفعل بضم العين أقيس قعد يقعد أقيس من جلس يجلس، وعاد الضمير في ‏{‏لها‏}‏ مؤنثاً إذ السلم بمعنى المسالمة والهدنة، وقيل السلم مؤنثة كالحرب ذكره النحاس، وقال أبو حاتم يذكر السلم، وقال قتادة والحسن بن أبي الحسن وعكرمة وابن زيد‏:‏ هذه الآية منسوخة بآيات القتال في براءة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقد يحتمل ألا يترتب نسخها بأن يعني بهذه من تجوز مصالحته وتبقى تلك في براءة في عبدة الأوثان وإلى هذا ذهب الطبري وما قالته الجماعة صحيح أيضاً إذا كان الجنوح إلى سلم العرب مستقراً في صدر الإسلام فنسخت ذلك آية براءة ونبذت إليهم عهودهم، وروي عن ابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 139‏]‏ الآية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قول بعيد من أن يقوله ابن عباس رضي الله عنه، لأن الآيتين مبينتان، وقوله ‏{‏وتوكل على الله‏}‏ أمر في ضمنه وعد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 64‏]‏

‏{‏وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏62‏)‏ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏63‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

الضمير في قوله ‏{‏وإن يريدوا‏}‏ عائد على الكفار الذين قيل فيهم، ‏{‏وإن جنحوا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 61‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإن يريدوا أن يخدعوك‏}‏ يريد بأن يظهروا له السلم ويبطنوا الغدر والخيانة، أي فاجنح وما عليك من نياتهم الفاسدة، ‏{‏فإن حسبك الله‏}‏ أي كافيك ومعطيك نصرة وإظهاراً، وهذا وعد محض، و‏{‏أيدك‏}‏ معناه قواك، ‏{‏وبالمؤمنين‏}‏ يريد بالأنصار بقرينة قوله ‏{‏وألف بين قلوبهم‏}‏ الآية، وهذه إشارة إلى العداوة التي كانت بين الأوس والخزرج في حروب بعاث فألف الله تعالى قلوبهم على الإسلام وردهم متحابين في الله، وعددت هذه النعمة تأنيساً لمحمد صلى الله عليه وسلم، أي كما لطف بك ربك أولاً فكذلك يفعل آخراً، وقال ابن مسعود‏:‏ نزلت هذه الآية في المتحابين في الله إذا تراءى المتحابان فتصافحا وتضاحكا تحاتت خطاياهما، فقال له عبدة بن أبي لبابة إن هذا ليسير، فقال له لا تقل ذلك فإن الله يقول ‏{‏لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم‏}‏ قال عبدة‏:‏ فعرفت أنه أفقه مني‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا كله تمثل حسن بالآية لا أن الآية نزلت في ذلك بل تظاهرت أقوال المفسرين أنها في الأوس والخزرج كما ذكرنا، ولو ذهب إلى عموم المؤمنين في المهاجرين والأنصار وجعل التأليف ما كان من جميعهم من التحاب حتى تكون ألفة الأوس والخزرج جزءاً من ذلك لساغ ذلك، وكل تألف في الله فتابع لذلك التألف الكائن في صدر الإسلام، وقد روى سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ «المؤمن مألفة لا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والتشابه هو سبب الألفة فمن كان من أهل الخير ألف أشباهه وألفوه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي أحسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين‏}‏ قال النقاش‏:‏ نزلت هذه الآية بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال، وحكي عن ابن عباس أنها نزلت في الأوس والخزرج خاصة، قال ويقال إنها نزلت حين أسلم عمر وكمل المسلمون أربعين، قاله ابن عمر وأنس، فهي على هذا مكية، و‏{‏حسبك‏}‏ في كلام العرب وشرعك بمعنى كافيك ويكفيك، والمحسب الكافي، وقالت فرقة‏:‏ معنى هذه الآية يكفيك الله ويكفيك من اتبعك من المؤمنين، ف ‏{‏من‏}‏ في هذا التأويل رفع عطفاً على اسم الله عز وجل، وقال عامر الشعبي وابن زيد‏:‏ معنى الآية حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين، ف ‏{‏من‏}‏ في هذا التأويل في موضع نصب عطفاً على موضع الكاف، لأن موضعها نصب على المعنى ليكفيك التي سدَّت ‏{‏حسبك‏}‏ مسدَّها، ويصح أن تكون ‏{‏من‏}‏ في موضع خفض بتقدير محذوف كأنه قال وحسب وهذا كقول الشاعر‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

أكلُّ امرئ تحسبين امرأً *** ونار توقَّدُ بالليلِ نارا

التقدير وكل نار، وهذا الوجه من حذف المضاف مكروه بابه ضرورة الشعر، ويروى البيت وناراً، ومن نحو هذا قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

إذا كانت الهيجاءُ وانشقَّت العصا *** فحسبُك والضحَّاكُ سيف مهند

يروى «الضحاك» مرفوعاً والضحاك منصوباً والضحاك مخفوضاً فالرفع عطف على قوله سيف بنية التأخير كما قال الشاعر‏:‏

عليك ورحمة الله السلام *** ويكون «الضحاك» على هذا محسباً للمخاطب، والنصب عطفاً على موضع الكاف من قوله «حسبك» والمهند على هذا محسب للمخاطب، والضحاك على تقدير محذوف كأنه قال فحسبك الضحاك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 66‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏65‏)‏ الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

قوله ‏{‏حرض‏}‏ معناه حثهم وحضهم، قال النقاش وقرئت «حرص» بالصاد غير منقوطة والمعنى متقارب والحارض الذي هو القريب من الهلاك لفظة مباينة لهذه ليست منها في شيء، وقالت فرقة من المفسرين‏:‏ المعنى حرض على القتال حتى يبين لك فيمن تركه أنه حرض‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قول غير ملتئم ولا لازم من اللفظ، ونحا إليه الزجّاج، و‏{‏القتال‏}‏ مفترض على المؤمنين بغير هذه الآية، وإنما تضمنت هذه الآية أمر النبي صلى الله عليه وسلم، بتحريضهم على أمر قد وجب عليهم من غير هذا الموضع، وقوله ‏{‏إن يكن‏}‏ إلى آخر الآية في لفظ خبر ضمنه وعد بشرط لأن قوله ‏{‏إن يكن منكم عشرون صابرون‏}‏ بمنزلة أن يقال إن يصبر منكم عشرون يغلبوا، وفي ضمنه الأمر بالصبر وكسرت العين من «عِشرون» لأن نسبة عشرين من عشرة نسبة اثنين من واحد فكما جاء أول اثنين مكسوراً كسرت العين من عِشرين ثم اطرد في جموع أجزاء العشرة، فالمفتوح كأربعة وخمسة وسبعة فتح أول جمعه، والمكسور كستة وتسعة كسر أول جمعه، هذا قول سيبويه، وذهب غيره إلى أن عشرين جمع عشر الإبل وهو وردها للتسع، فلما كان في عشرة وعشرة وعشر ويومان من الثالث جمع ذلك على عشرين، كما قال امرؤ القيس‏:‏

ثلاثون شهراً في ثلاثة أحوال *** لما كان في الثلاثين حول

وحول وبعض الثالث وتظاهرت الروايات عن ابن عباس وغيره من الصحابة بأن ثبوت الواحد للعشرة كان فرضاً من الله عز وجل على المؤمنين ثم لما شق ذلك عليهم حط الفرض إلى ثبوت الواحد للاثنين‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا هو النسخ لأنه رفع حكم مستقر بحكم آخر شرعي، وفي ضمنه التخفيف، إذ هذا من نسخ الأثقل بالأخف، وذهب بعض الناس إلى أن ثبوت الواحد للعشرة إنما كان على جهة ندب المؤمنين إليه، ثم حط ذلك حين ثقل عليهم إلى ثبوت الواحد للاثنين، وروي أيضاً هذا عن ابن عباس، قال كثير من المفسرين‏:‏ وهذا تخفيف لا نسخ إذ لم يستقر لفرض العشرة حكم شرعي، قال مكي‏:‏ وإنما هو كتخفيف الفطر في السفر وهو لو صام لم يأثم وأجزأه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذا نظر، ولا يمتنع كون المنسوخ مباحاً من أن يقال نسخ، واعتبر ذلك في صدقة النجوي، وهذه الآية التخفيف فيها نسخ للثبوت للعشرة، وسواء كان الثبوت للعشرة فرضاً أو ندباً هو حكم شرعي على كل حال، وقد ذكر القاضي ابن الطيب أن الحكم إذا نسخ بعضه أو بعض أوصافه أو غير عدده فجائز أن يقال له نسخ لأنه حينئذ ليس بالأول وهو غيره، وذكر في ذلك خلافاً‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والذي يظهر في ذلك أن النسخ إنما يقال حينئذ على الحكم الأول مقيداً لا بإطلاق واعتبر ذلك في نسخ الصلاة إلى بيت المقدس، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «إن يكن منكم مائة» في الموضعين بياء على تذكير العلامة، ورواها خارجة عن نافع‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا بحسب المعنى لأن الكائن في تلك المائة إنما هم رجال فذلك في الحمل على المعنى كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من جاء بالحسنة له عشر أمثالها‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 160‏]‏ إذ أمثالها حسنات، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر «إن تكن منكم مائة» في الموضعين على تأنيث العلامة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا بحسب اللفظ والمقصد كأنه أراد إن تكن عددها مائة وقرأ أبو عمرو بالياء في صدر الآية وبالتاء في آخرها، ذهب في الأولى إلى مراعاة ‏{‏يغلبوا‏}‏ وفي الثانية إلى مراعاة ‏{‏صابرة‏}‏ قلا أبو حاتم‏:‏ وقرأ «إن تكن» بالتاء من فوق منكم «عشرون صابرون» الأعرج وجعلها كلها على «ت»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ إلا قوله ‏{‏وإن يكن منكم ألف‏}‏ فإنه لا خلاف في الياء من تحت، قوله ‏{‏لا يفقهون‏}‏ معناه لا يفهمون مراشدهم ولا مقصد قتالهم لا يريدون به إلا الغلبة الدنياوية، فهم يخافون إذا صبر لهم، ومن يقاتل ليغلب أو يستشهد فيصير إلى الجنة أثبت قدماً لا محالة، وروى المفضل عن عاصم «وعُلِمَ» بضم العين وكسر اللام على البناء للمفعول، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي وابن عمرو والحسن والأعرج وابن القعقاع وقتادة وابن أبي إسحاق «ضُعْفاً» بضم الضاد وسكون العين، وقرأ عاصم وحمزة وشيبة وطلحة «ضَعْفاً» بفتح الضاد وسكون العين، وكذلك اختلافهم في سورة الروم، وقرأ عيسى بن عمر «ضُعُفاً» بضم الضاد والعين وذكره النقاش، وهي مصادر بمعنى واحد، قال أبو حاتم‏:‏ من ضم الضاد جاز له ضم العين وهي لغة، وحكى سيبويه الضَّعْف والضُّعْف لغتان بمنزلة الفَقْر والفُقر، حكى الزهراوي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال‏:‏ ضم الضاد لغة أهل الحجاز وفتحها لغة تميم ولا فرق بينهما في المعنى، وقال الثعالبي في كتاب فقه اللغة له‏:‏ الضَّعف بفتح الضاد في العقل والرأي، والضُّعف بضمها في الجسم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قول ترده القراءة وذكره أبو غالب بن التياني غير منسوب، وقرأ أبو جعفر ابن القعقاع أيضاً «ضعفاء» بالجمع كظريف وظرفاء، وحكاها النقاش عن ابن عباس، وقوله ‏{‏والله مع الصابرين‏}‏ لفظ خبر في ضمنه وعد وحض على الصبر، ويلحظ منه وعيد لمن لم يصبر بأنه يغلب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 69‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏67‏)‏ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏68‏)‏ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏69‏)‏‏}‏

هذه الآية تتضمن عندي معاتبة من الله عز وجل لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم، والمعنى ما كان ينبغي لكم أن تفعلوا هذا الفعل الذي أوجب أن يكون للنبي أسرى قبل الإثخان، ولهم هو الإخبار ولذلك استمر الخطاب ب ‏{‏تريدون‏}‏، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب ولا أراد قط عرض الدنيا، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب، وجاء ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الآية مشيراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم في العتب حين لم ينه عن ذلك حين رآه من العريش، وأنكره سعد بن معاذ ولكنه صلى الله عليه وسلم شغله بغت الأمر وظهور النصر فترك النهي عن الاستبقاء ولذلك بكى هو وأبو بكر حين نزلت هذه الآية، ومر كثير من المفسرين على أن هذا التوبيخ إنما كان بسبب إشارة من أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ الفدية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جمع أسرى بدر استشار فيهم أصحابه، فقال أبو بكر الصديق يا رسول الله هم قرابتك ولعل الله أن يهديهم بعد إلى الإسلام ففادهم واستبقهم ويتقوى المسلمون بأموالهم، وقال عمر بن الخطاب لا يا رسول الله بل نضرب أعناقهم فإنهم أئمة الكفر، وقال عبد الله بن رواحة بل نجعلهم في وادٍ كثير الحطب ثم نضرمه عليهم ناراً، وقد كان سعد بن معاذ قال وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش وقد رأى الأسر لقد كان الإثخان في القتل أحب إليَّ من استبقاء الرجال، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر ومال إليه، فنزلت هذه الآية مخبرة أن الأولى والأهيب على سائر الكفار كان قتل أسرى بدر، قال ابن عباس نزلت هذه الآية والمسلمون قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم نزل في الأسر ‏{‏فإما منّاً بعد وإما فداء‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 47‏]‏ وذكر الطبري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تكلم أصحابه في الأسرى بما ذكر دخل ولم يجبهم ثم خرج، فقال‏:‏ إن الله تعالى يلين قلوب رجال ويشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال ‏{‏فمن يتبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 36‏]‏ ومثل عيسى قال‏:‏ ‏{‏إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 118‏]‏ ومثلك يا عمر مثل نوح قال‏:‏ ‏{‏رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 26‏]‏ ومثل موسى قال‏:‏ ‏{‏ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 88‏]‏ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، «أنتم اليوم فلا يفلتن منهم رجل إلا بفدية أو ضرب عنق»

وفي هذا الحديث قال عمر‏:‏ فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذه حجة على ذكر الهوى في الصلاح، وقرأت فرقة «ما كان للنبيّ» معرفاً، وقرأ جمهور الناس «لنبي»، وقرأ أبو عمرو بن العلاء وحده «أن تكون» على التأنيث العلامة مراعاة للفظ الأسرى، وقرأ باقي السبعة وجمهور الناس «أن يكون» بتذكير العلامة مراعاة لمعنى الأسرى، وقرأ جمهور الناس والسبعة «أسرى»، وقرأ بعض الناس «أسارى» ورواها المفضل عن عاصم، وهي قراءة أبي جعفر، والقياس والباب أن يجمع أسير على أسرى، وكذلك كل فعيل بمعنى مفعول وشبه به فعيل وإن لم يكن بمعنى مفعول كمريض ومرضى، إذا كانت أيضاً أشياء سبيل الإنسان أن يجبر عليها وتأتيه غلبة، فهو فيها بمنزلة المفعول، وأما جمعه على أسارى فشبيه بكسالى في جمع كسلان وجمع أيضاً كسلان على كسلى تشبيهاً بأسرى في جمع أسير، قاه سيبويه‏:‏ وهما شاذان، وقال الزجّاج‏:‏ أسارى جمع أسرى فهو جمع الجمع، وقرأ جمهور الناس «يثْخن» بسكون الثاء، وقرأ أبو جعفر ويحيى بن يعمر ويحيى بن وثاب «يَثخّن» بفتح الثاء وشد الخاء، ومعناه في الوجهين يبالغ في القتل، والإثخان إنما يكون في القتل والجارحة وما كان منها، ثم أمر مخاطبة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال ‏{‏تريدون عرض الدنيا‏}‏ أي مالها الذي يعن ويعرض، والمراد ما أخذ من الأسرى من الأموال، ‏{‏والله يريد الآخرة‏}‏ أي عمل ألآخرة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وقرأ ابن جماز «الآخرةِ» بالخفض على تقدير المضاف، وينظر ذلك لقول الشاعر‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

أكل امرئ تحسبين امرأً *** ونار توقّدُ بالليلِ نارا

على تقدير وكل نار، وذكر الطبري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس‏:‏ «إن شئتم أخذتم فداء الأسرى ويقتل منكم في الحرب سبعون على عددهم، وإن شئتم قتلوا وسلمتم» فقالوا نأخذ المال ويستشهد منا سبعون، وذكر عبد بن حميد بسنده أن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بتخيير الناس هكذا‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وعلى الروايتين فالأمر في هذا التخيير من عند الله فإنه إعلام بغيب، وإذا خيروا فكيف يقع التوبيخ بعد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم‏}‏ والذي أقول في هذا إن العتب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ‏{‏ما كان لنبي‏}‏ إلى قوله ‏{‏عظيم‏}‏ إنما هو على استبقاء الرجال وقت الهزيمة رغبة في أخذ المال منهم وجميع العتب إذا نظر فإنما هو للناس، وهناك كان عمر يقتل ويحض على القتل ولا يرى الاستبقاء، وحينئذ قال سعد بن معاذ‏:‏ الإثخان أحب إليَّ من استبقاء الرجال، وبذلك جعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ناجيين من عذاب أن لو نزل، ومما يدل على حرص بعضهم على المال قول المقداد حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل عقبة بن أبي معيط‏:‏ أسيري يا رسول الله، وقول مصعب أين عمير للذي يأسر أخاه شد يدك عليه فإن له أماً موسرة إلى غير ذلك من قصصهم، فلما تحصل الأسرى وسيقوا إلى المدينة وأنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم القتل في النضر وعقبة والمنّ في أبي عزة وغيره، وجعل يرتئي في سائرهم نزل التخيير من الله تعالى فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ، فمر عمر رضي الله عنه على أول رأيه في القتل، ورأى أبو بكر رضي الله عنه المصلحة في قوة المسلمين بمال الفداء، ومال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رأي أبي بكر، وكلا الرأيين اجتهاد بعد تخيير، فلم ينزل على شيء من هذا عتب، وذكر المفسرون أن الآية نزلت بسبب هذه المشورة والآراء، وذلك معترض بما ذكرته، وكذلك ذكروا في هذه الآيات تحليل المغانم لهذه الأمة ولا أقول ذلك، لأن حكم الله تعالى بتحليل المغنم لهذه الأمة قد كان تقدم قبل بدر وذلك في السرية التي قتل فيها عمرو بن الحضرمي وإنما المبتدع في بدر استبقاء الرجال لأجل المال، والذي منَّ الله به فيها إلحاق فدية الكافر بالمغانم التي قد تقدم تحليلها، ووجه ما قال المفسرون أن الناس خيروا في أمرين، أحدهما غير جيد على جهة الاختبار لهم، فاختاروا المفضول فوقع العتب، ولم يكن تخييراً في مستويين، وهذا كما أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بإناءين فاختار الفاضل، و‏{‏عزيز حكيم‏}‏ صفتان من قبل الآية لأن بالعزة والحكمة يتم مراده على الكمال والتوفية، وقال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ الأسرى هم غير الموثقين عندما يؤخذون، والأسارة هم الموثقون ربطاً‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وحكى أبو حاتم أنه سمع هذا من العرب، وقد ذكره أيضاً أبو الحسن الأخفش، وقال‏:‏ العرب لا تعرف هذا وكلاهما عندهم سواء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لولا كتاب من الله سبق‏}‏ الآية، قالت فرقة‏:‏ الكتاب السابق هو القرآن، والمعنى لولا الكتاب الذي سبق فآمنتم به وصدقتم لمسكم العذاب لأخذكم هذه المفاداة، وقال سعيد بن جبير ومجاهد والحسن أيضاً وابن زيد‏:‏ الكتاب السابق هو مغفرة الله لأهل بدر ما تقدم من ذنوبهم أو تأخر، وقال الحسن وابن عباس وأبو هريرة وغيرهم‏:‏ الكتاب هو ما كان الله قضاه في الأزل من إحلال الغنائم والفداء لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته وكانت في سائر الأمم محرمة، وقالت فرقة‏:‏ الكتاب السابق هو عفو الله عنهم في هذا الذنب معيناً، وقالت فرقة‏:‏ الكتاب هو أن الله عز وجل قضى أن لا يعاقب أحداً بذنب أتاه بجهالة، وهذا قول ضعيف تعارضه مواضع من الشريعة، وذكر الطبري عن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب أن الكتاب السابق هو أن لا يعذب أحداً بذنب إلا بعد النهي عنه ولم يكونوا نهو بعد، وقالت فرقة‏:‏ الكتاب السابق هو ما قضاه الله من محو الصغائر باجتناب الكبائر، وذهب الطبري إلى دخول هذه المعاني كلها تحت اللفظ وأنه يعمها، ونكب عن تخصيص معنى دون معنى، واللام في ‏{‏لمسكم‏}‏ جواب ‏{‏لولا‏}‏، و‏{‏كتاب‏}‏ رفع بالابتداء والخبر محذوف، وهكذا حال الاسم الذي بعد لولا، وتقديره عند سيبويه لولا كتاب سابق من الله تدارككم، وما من قوله ‏{‏فيما‏}‏ يراد بها إما الأسرى وإما الفداء، وهي موصولة، وفي ‏{‏أخذتم‏}‏ ضمير عائد عليها، ويحتمل أن تكون مصدرية فلا تحتاج إلى العائد، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لو نزل في هذا الأمر عذاب لنجا منه عمر بن الخطاب، وفي حديث آخر وسعد بن معاذ، وذلك أن رأيهما كان أن يقتل الأسرى، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكلوا مما غنمتم‏}‏ الآية، نص على إباحة المال الذي أخذ من الأسرى وإلحاق له بالغنيمة التي كان تقدم تحليلها، قوله ‏{‏حلالاً طيباً‏}‏ حال في قوله، ويصح أن يكونا من الضمير الذي في ‏{‏غنمتم‏}‏ ويحتمل أن يكون ‏{‏حلالاً‏}‏ مفعولاً ب «كلوا»، ‏{‏واتقوا الله‏}‏ معناه في التشرع حسب إرادة البشر وشهوته في نازلة، أخرى، وجاء قوله ‏{‏واتقوا الله‏}‏ اعتراضاً فصيحاً في أثناء الكلام، لأن قوله ‏{‏إن الله غفور رحيم‏}‏ هو متصل بالمعنى بقوله ‏{‏فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 71‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏70‏)‏ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏71‏)‏‏}‏

روي أن الأسرى ببدر أعلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لهم ميل إلى الإسلام وأنهم يؤملونه وأنهم إن فدوا ورجعوا إلى قومهم التزموا جلبهم إلى الإسلام وسعوا في ذلك ونحو هذا الغرض، ففي ذلك نزلت هذه الآية، وقال ابن عباس ‏{‏الأسرى‏}‏ في هذه الآية عباس وأصحابه، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم آمنا بما جئت به ونشهد إنك لرسول الله لننصحن لك على قومنا فنزلت هذه الآية، وقرأ جمهور الناس‏:‏ «من الأسرى» وقرأ أبو عمرو وحده من السبعة «من الأسارى» وهي قراءة أبي جعفر وقتادة ونصر بن عاصم وابن أبي إسحاق، واختلف عن الحسن بن أبي الحسن وعن الجحدري وقرأ ابن محيصن «من لسرى» بالإدغام، ومعنى الكلام إن كان هذا عن جد منكم وعلم الله من نفوسكم الخير والإسلام سيجبر عليكم أفضل مما أعطيتم فدية وسيغفر لكم جميع ما اجترحتموه، وقرأ الأعمش «يثيبكم خيراً» وقرأ جمهور الناس «أُخِذ» بضم الهمزة وكسر الخاء وقرأ شيبة بن نصاح وأبو حيوة «أَخذ» بفتحها، وروي أن أسرى بدر افتدوا بأربعين أوقية أربعين أوقية إلا العباس فإنه افتدي بمائة أوقية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والأوقية أربعون درهماً، وقال قتادة فادوهم بأربعة آلاف أربعة الآف، وقال عبيدة السلماني كان فداء أسرى بدر مائة أوقية، والأوقية، والأوقية أربعون درهماً، ومن الدنانير ستة دنانير، وروي أن العباس بن عبد المطلب قال «فيَّ وفي أصحابي نزلت هذه الآية، وقال حين أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من مال البحرين ما قدر أن يقل، هذا خير مما أخذ مني وأنا أرجوا أن يغفر الله لي وأسند الطبري أيضاً إلى العباس أنه قال فيّ نزلت حين أعلمت رسول الله صلى الله عيله وسلم بإسلامي وسألته أن يحاسبني بالعشرين الأوقية التي أخذت مني قبل المفادة فأبى وقال ذلك فيء فأبدلني الله من ذلك عشرين عبداً كلهم تاجر بمالي، وروي عن العباس أنه قال‏:‏ ما أود أن هذه الآية لم تنزل ولي الدنيا بأجمعها، وذلك أن الله قد آتاني مما أخذ مني وأنا أرجو أن يغفر لي، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله‏}‏ الآية، قول أمر أن يقوله للأسرى ويورد معناه عليهم، والمعنى إن أخلصوا فعل بهم كذا وإن أبطنوا خيانة ما رغبوا أن يؤتمنوا عليه من العهد فلا يسرهم ذلك ولا يسكنوا إليه، فإن الله بالمرصاد لهم الذي خانوا قبل بكفرهم وتركهم النظر في آياته وهو قد بينها لهم إدراكاً يحصلونها به فصار كعهد متقرر، فجعل جزاؤهم على خيانتهم إياه أن مكن منهم المؤمنين وجعلهم أسرى في أيديهم، وقوله ‏{‏عليم حكيم‏}‏ صفتان مناسبتان، أي عليم بما يبطنونه من إخلاص أو خيانة حكيم فيما يجازيهم به‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وأما تفسير هذه الآية بقصة عبد الله بن أبي سرح فينبغي أن يحرر، فإن جلبت قصة عبد الله بن أبي سرح على أنها مثال كما يمكن أن تجلب أمثلة في عصرنا من ذلك فحسن، وإن جلبت على أن الآية نزلت في ذلك فخطأ، لأن ابن أبي سرح إنما تبين أمره في يوم فتح مكة، وهذه الآية نزلت عقيب بدر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏72‏)‏‏}‏

مقصد هذه الآية وما بعدها تبيين منازل المهاجرين والأنصار والمؤمنين الذين لم يهاجروا، والكفار والمهاجرين بعد الحديبية، وذكر نسب بعضهم من بعض، فقدم أولاً ذكر المهاجرين وهم أصل الإسلام، وانظر تقديم عمر لهم في الاستشارة و«هاجر» معناه أهله وقرابته وهجروه، ‏{‏وجاهدوا‏}‏ معناه أجهدوا أنفسهم في حرب من أجهد نفسه في حربهم، ‏{‏والذين آوو ونصروا‏}‏ هم الأنصار وآوى معناه هيأ مأوى وهوالملجأ والحرز، فحكم الله على هاتين الطائفتين بأن ‏{‏بعضهم أولياء بعض‏}‏، فقال كثير من المفسرين هذه الموالاة هي المؤازرة والمعاونة واتصال الأيدي، وعليه فسر الطبري الآية، وهذا الذي قالوا لازم من دلالة اللفظ، وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد وكثير منهم إن هذه الموالاة هي في الميراث، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار، وكانت بين الأنصار أخوة النسب وكانت أيضاً بين بعض المهاجرين فكان المهاجريّ إذا مات ولم يكن له بالمدينة ولي مهاجريّ وورثه أخوه الأنصاري، وإن كان له ولي مسلم لم يهاجر، وكان المسلم الذي لم يهاجر لا ولاية بينه وبين قريبه المهاجري لا يرثه، قال ابن زيد‏:‏ واستمر أمرهم كذلك إلى فتح مكة، ثم توارثوا بعد ذلك لما لم تكن هجرة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فذهبت هذه الفرقة إلى أن هذا هو مقصد الآية، ومن ذهب إلى أنها في التآزر والتعاون فإنما يحمل نفي الله تعالى ولايتهم عن المسلمين على أنها صفة الحال لا أن الله حكم بأن لا ولاية بين المهاجرين وبينهم جملة، وذلك أن حالهم إذا كانوا متباعدي الأقطار تقتضي أن بعضهم إن حزبه حازب لا يجد الآخر ولا ينتفع به فعلى هذه الجهة نفي الولاية، وعلى التأولين ففي الآية حض للأعراب على الهجرة، قاله الحسن بن أبي الحسن، ومن رأى الولاية في الموارثة فهو حكم من الله ينفي الولاية في الموارثة، قالوا‏:‏ ونسخ ذلك قوله تعالى ‏{‏وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 75‏]‏، وقرأ جمهور السبعة والناس «وَلايتهم» بفتح الواو والوَلاية أيضاً بالفتح، وقرأ الكسائي «وَلايتهم» بفتح الواو والوِلاية بكسر الواو، وقرأ الأعمش وابن وثاب «وِلايتهم» والوِلاية بكسر الواو وهي قراءة حمزة، قال أبو علي والفتح أجود لأنها في الدين، قال أبو الحسن الأخفش والكسر فيها لغة وليست بذلك ولحن الأصمعي والأعمش وأخطأ عليه لأنها إذا كانت لغة فلم يلحن‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ لا سيما ولا يظن به إلا أنه رواها، قال أبو عبيدة‏:‏ الوِلاية بالكسر هي من وليت الأمر إليه فهي من السلطان، والولاية هي من المولى، يقال مولى بين الوَلاية بفتح الواو، وقوله ‏{‏وإن استنصروكم‏}‏ يعني إن استدعى هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا نصركم على قوم من الكفرة فواجب عليكم نصرهم إلا إن استنصروكم على قوم كفار قد عاهدتموهم أنتم وواثقتموهم على ترك الحرب فلا تنصروهم عليهم لأن ذلك عذر ونقض للميثاق وترك لحفظ العهد والوفاء به، والقراءة «فعليكم النصرُ» برفع الراء، ويجوز «فعليكم النصر» على الإغراء، ولا أحفظه قراءة، وقرأ جمهور الناس «والله بما تعملون» على مخاطبة المؤمنين، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والأعرج «بما يعملون» بالياء على ذكر الغائب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 75‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ‏(‏73‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏74‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏75‏)‏‏}‏

هذا حكم بأن الكفار ولايتهم واحدة، وذلك بجمع الموارثة والمعاونة والنصرة، وهذه العبارة ترغيب وإقامة للنفوس، كما تقول لمن تريد أن يستطلع‏:‏ عدوك مجتهد، أي فاجتهد أنت، وحكى الطبري في تفسر هذه الآية عن قتادة أنه قال‏:‏ أبى الله أن يقبل إيمان من آمن ولم يهاجر، وذلك في صدر الإسلام، وذلك أيضاً مذكور مستوعب في تفسير قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 97‏]‏‏.‏

والذي يظهر من الشرع أن حكم المؤمن التارك للهجرة مع علمه بوجوبها حكم العاصي لا حكم الكافر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 97‏]‏ إنما هي فيمن قتل مع الكفار، وفيهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنا بريء من مسلم أقام بين المشركين لا تراءى ناراهما» الحديث على اختلاف ألفاظه وقول قتادة إنما هو فيمن كان يقوم متربصاً يقول من غلب كنت معه، وكذلك ذكر في كتاب الطبري والكشي، والضمير في قوله ‏{‏إلا تفعلوه‏}‏ قيل هو عائد على الموارثة والتزامها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا لا تقع الفتنة عنه إلا عن بعد وبوساطة كثيرة، وقيل هو عائد على المؤازرة والمعاونة واتصال الأيدي، وهذا تقع الفتنة عنه عن قرب فهو آكد من الأول، ويظهر أيضاً عوده على حفظ العهد والميثاق الذي يتضمنه ‏{‏إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 72‏]‏ وهذا إن لم يفعل فهي الفتنة نفسها، ويظهر أن يعود الضمير على النصر للمسلمين المستنصرين في الدين، ويجوز أن يعود الضمير مجملاً على جميع ما ذكر، والفتنة المحنة بالحرب وما أنجز معها من الغارات والجلاء والأسر، و«الفساد الكبير» ظهور الشرك، وقرأ جمهور الناس «كبير» بالباء المنقوطة واحدة، وقرأ أبو موسى الحجازي عن الكسائي بالثاء منقوطة مثلثة وروى أبو حاتم المدني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ «وفساد عريض»، وقرأت فرقة «والذين كفروا بعضهم أولى ببعض» وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا وهاجروا‏}‏ الآية، آية تضمنت تخصيص المهاجرين والأنصار وتشريفهم بهذا الوصف العظيم، و‏{‏حقاً‏}‏ نصب على المصدر المؤكد لما قبله، ووصف الرزق بالكريم معناه أنه لا يستحيل نحواً، والمراد به طعام الجنة، كما ذكر الطبري وغيره ولازم اللفظ نفي المذمات عنه، وما ذكروه فهو في ضمن ذلك، وقوله ‏{‏من بعد‏}‏ يريد به من بعد الحديبية وبيعة الرضوان وذلك أن الهجرة من بعد ذلك كانت أقل رتبة من الهجرة قبل ذلك، وكان يقال لها الهجرة الثانية، لأن الحرب وضعت أوزارها نحو عامين، ثم كان فتح مكة وبه قال صلى الله عليه وسلم

«لا هجرة بعد الفتح»، وقال الطبري‏:‏ المعنى من بعد ما بينت لكم حكم الولاية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فكان الحاجز بين الهجرتين نزول الآية، فأخبر الله تعالى في هذه الآية بأنهم من الأولين في المؤازرة وسائر وأحكام الإسلام، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجاهدوا معكم‏}‏ لفظ يقتضي أنهم تبع لا صدر، قوله ‏{‏فأولئك منكم‏}‏ كذلك، ونحوه قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مولى القوم منهم وابن أخت القوم منهم»، وقوله ‏{‏وأولو الأرحام‏}‏ إلى آخر السورة، قال من تقدم ذكره هي في المواريث وهي ناسخة للحكم المتقدم ذكره من أن يرث المهاجري الأنصاري، ووجب بهذه الآية الأخيرة أن يرث الرجل قريبه وإن لم يكن مهاجراً معه، وقالت فرقة منها مالك بن أنس رحمه الله‏:‏ إن الآية ليست في المواريث، وهذا فرار عن توريث الخال والعمة ونحو ذلك، وقالت فرقة‏:‏ هي في المواريث إلا أنها نسخت بآية المواريث المبينة، وقوله ‏{‏في كتاب الله‏}‏، معناه القرآن أي ذلك مثبت في كتاب الله، وقيل المعنى في كتاب الله السابق في اللوح المحفوظ، و‏{‏عليم‏}‏ صفة مناسبة لنفوذ هذه الأحكام، كمل تفسير سورة الأنفال‏.‏